ومن المعروف ان التخطيط لم يكن مقصورا على شعب دون سواه أو منطقة دون غيرها، فهو نشاط مورس بالفطرة منذ النشأة. فقد عرفت الانسانية التخطيط في عصور ما قبل التاريخ منذ أن أصبح الإنسان قادرا على صنع أدواته حيث كان يخطط ليحصل على حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن بأدوات بسيطة بدائية، وحتى اختراع الكتابة عام 3500 ق.م تقريبا. وتجدر الإشارة إلى أن التخطيط في شكله البدائي اقترن بالحضارات القديمة والتي نشأت في وادي النيل وبلاد ما بين النهرين وفي مواقع أخرى من العالم مثل وادي السند والكنج في الهند، وحضارة نهري هوانجهو واليانجتسي في الصين. ولم يكن بمقدور هذه الحضارات العظيمة الصمود والتقدم عبر آلاف السنين دون ممارسة التخطيط المنظم والتي ما زالت آثارها شاهده على ذلك حتى يومنا هذا.
إن التخطيط كان وما يزال عملية مستمرة منذ الأزل إلا أنه قد اخذ شكله الحالي كعلم منظم بعد الثورة الصناعية واختراع الآلة البخارية. فقد ظهرت فكرة التخطيط الاقتصادي المنظم عام 1910 على يد النرويجي كريستيان شونهيدر Kristian Schönheider ، وتم تعزيز فكرة التخطيط الاقتصادي والعسكري إبان الحرب العالمية الأولى 1914. وقد ادى قيام الثورة البلشفية في روسيا وظهور النظام الاقتصادي الاشتراكي ذو التخطيط المركزي عام 1917 الى تبنى التخطيط كسياسة دولة. اما في الاقتصاد الرأسمالي فقد ظهرت الفكرة الكنزية على يد الاقتصادي كينز John Maynard Keynes (1883-1946) والمنادية بان آلية السوق وحدها غير قادرة على ضمان التوظيف الكامل مما يستوجب تدخل الدولة لتوجيه النشاط الاستثماري. وقد تبنت دول رأسمالية معروفة مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا فكرة التخطيط قبل وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية وكان اوج هذا التبني الرأسمالي للتخطيط المركزي من خلال صياغة وتنفيذ خطة الولايات المتحدة الأمريكية لاعادة اعمار أوروبا والتي عرفت بمشروع مارشال.
التخطيط لأجل
يتميز الانسان عن غيره من الكائنات الحية بانه الأذكى والأقدر على تنظيم حاضره ومستقبله. وخير شاهد على ذلك هو قدرته على الصمود والتكيف عبر ملايين السنين. وقد بينت المخلفات الأثرية التي وجدت وما زالت تكتشف بين الحين والآخر، ان الاحتياجات البدنية والروحية للانسان كانت المحرك الرئيس للتخطيط. فقد طوع الانسان البدائي الفخار والحديد لصناعة الادوات التي يحتاجها على المدى القصير لتحضير غذائه واتخذ من الكهوف ملاذا يقيه من البرد والحر على المدى المتوسط وفلح الأرض وربى الماشية ليؤمن قوته على المدى الطويل. وبانتهاج الانسان مبدأ التخطيط لأجل قصير ومتوسط وطويل المدى، ضمن سلامة سلالته وتطورها عبر العصور. لذا فأن المفهوم المبسّط للتخطيط على المستوى الفردي Individual Planning يكمن في انه تصرف فوري يستند الى حاجة جسدية أو روحية مثل البحث عن الماء لسد عطش قائم أو متوقع وهو ما يعرف بالتخطيط قصير المدى. وهناك التخطيط متوسط المدى، وهو تصرف استباقي لسد حاجة جسدية أو روحية مثل تخزين الطعام والحاجيات الى حين. كما ان هناك تخطيط طويل الأمد لسد حاجة جسدية أو روحية مبنى على التنبوء speculation كأن يبني الانسان منزلا بعيدا عن مجرى السيول والأودية للحماية من خطر الفيضان.
ومع نشوء الدولة كإطار تنظيمي للمجموعات الانسانية، سعى الانسان إلى تنظيم حياته عن طريق الإدارة المركزية التي تولت مهام سد الاحتياجات الجسدية والروحية للأفراد وبالتالي للمجموعات من قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى. ومع تراكم المعرفة ونشوء السوق المشتركة لتبادل السلع والخدمات ازدادت الحاجة إلى التخطيط المؤسسي Institutional Planning الذي يضمن دوران العجلة الاقتصادية، وبالتالي حماية الحاضر التخطيط لمستقبل أفضل.
وبناء عليه فانه يمكن تحديد مفهوم التخطيط الإنساني، الفردي والجماعي والمؤسسي، على انه نشاط ذهني مقصود يهدف لتحقيق حاجة جسدية أو روحية آنية أو مستقبلية لفرد أو لمجموعة من الأفراد خلال فترة زمنية محددة وبكلفة معينة.
وتمكن أهمية التخطيط في انه يجيء تلبية لحاجة جسدية أو روحية، ويمكّن من الاستغلال الأفضل للموارد الطبيعية والبشرية ويساعد على فهم واكتشاف الكرة الأرضية والفضاء الخارجي. كما أن التخطيط يزيد من فهم الواقع المعاش عن طريق استعراض البدائل المتاحة لحل القضايا الآنية أو المستقبلية، وجدولة القضايا حسب الأهمية والزمن. كما ان التخطيط يشكل آلية للرقابة والمتابعة ومرجعية للتقييم ووسيلة للتوثيق.
إن التخطيط يمكن أن يعّرف على انه عملية توجيه الأداء نحو خيار محدد لتحقيق نتائج معينة في زمن محدد وبتكلفة معينة. وبناءا عليه فان لهذا التوجيه للاداء مبررات تتمحور اما حول المبرر الاقتصادي Economic Justification والذي هو السبب الموجب للتصرف لحل معضلة اقتصادية معينة بعد المعاينة والدراسة، مثال: الزيادة في الطلب على سلعة معينة يبرر التخطيط لزيادة الإنتاج او الاستيراد، أو حول المبرر الاجتماعي Social Justification ، وهو السبب الداعي إلى التصرف لإيجاد حل لمشكلة اجتماعية قائمة أو متوقعة مثل انخفاض نسبة المواليد أو العزوف عن الزواج والذي يبرر التخطيط لتنفيذ برامج اجتماعية للحفاظ على توازن طبيعي بين عدد المواليد والوفيات. وقد يكون للتخطيط مبرر بيئي Ecological Justification وهو السبب الداعي إلى التدخل لإخضاع الطبيعية تحت سيطرة الإنسان أو مكافحة التلوث أو حماية الغلاف الجوي وما شابهه.
أنواع التخطيط
يمكن التفريق بين أنواع مختلفة من التخطيط من حيث المجال والمدة والشمولية والمكان. فالتخطيط من حيث المجال يمكن ان يقسّم الى اربعة أنواع هي التخطيط الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي والعمراني. فالتخطيط الطبيعي Natural Planning يعنى بدراسة الطبيعة وظواهرها مثل طوبوغرافية الأرض، المناخ، البيئة، الغطاء النباتي والموارد الطبيعية. أما التخطيط الاجتماعي Social Planning فيعنى بدراسة العمر والجنس والصحة والثقافة والتي تمكّن من تنظيم المجتمع في مجموعات تعكس أوجه التقارب والاختلاف فيما بينهم. بينما يعنى التخطيط الاقتصادي Economic Planning بدراسة الموارد المالية وتبادل السلع والخدمات والربح والخسارة ونسب النمو والإنفاق. أما التخطيط العمراني Physical Planning فيعنى بالبيئة المبنية مثل الأبنية والطرق وسكك الحديد وخطوط المياه والمجاري والكهرباء والاتصالات.
ويمكن تقسيم التخطيط من حيث المكان إلى عالمي وقاري ووطني ومحلي. ويقصد بالمكان في هذا الإطار الفراغ ثلاثي الأبعاد سواء كان ذلك على أو في كل من اليابسة والماء والجو. فالتخطيط العالمي يقصد منه تكوين نظرة شمولية إلى الكون وتنسيق جهود سكان العالم لحل مشكلة قائمة أو متوقعة تتجاوز إطار الدول التي يعيشون فيها. ومن الأمثلة على ذلك التخطيط لإغلاق ثقب الأوزون الذي حدث في الغلاف الجوي. والتخطيط القاري Continent Planning وهو ذلك النوع من التخطيط الذي يتعامل مع كل قارة على حدى لحل مشاكل متشابهة تتطلب تظافر الجهود تتجاوز حدود الدولة الواحدة. ومن الأمثلة على ذلك مساعي الدول الأوروبية للتكامل الاقتصادي في إطار الاتحاد الأوروبي. أما التخطيط الوطني National Planning فيقصد به التخطيط على مستوى الوطن في إطار حدود الدولة الواحدة. أما التخطيط الإقليمي Regional Planning فيقسم هذا النوع الدولة إلى أقاليم متجانسة قدر الامكان ليسهل وضع الخطط التنموية التي تعالج الإقليم بشكل منفرد مع ضمان الانسجام مع الخطة الوطنية. وخير مثال على ذلك الدراسة التخطيطية التي فرغت أمانة عمان الكبرى من اعدادها لاقليم الوسط في المملكة. اما التخطيط المحلي Local Planning فهو ذلك النوع من التخطيط الذي يختص بمساحة محددة إداريا ضمن الإقليم كالمدن والقرى.
كما يمكن تقسيم التخطيط من حيث الإدارة إلى تخطيط مركزي أو لا مركزي، ومن حيث الإلزامية بالإلزامي أو الاسترشادي أو الاختياري، ومن حيث الهدف بوحيد الهدف أو متعدد الأهداف.
المركزية واللامركزية في التخطيط
بما أن التخطيط عملية مركبة تضم في جنباتها العديد من القضايا للوصول إلى هدف أو مجموعة من الأهداف من خلال منهجية محددة، فان هذه العملية تحتاج إلى وجود جهات تعنى بالإعداد والتنفيذ والمراقبة والتقييم. وتشكل الدولة إطارا يضم مجموعة هيئات رسمية وأهلية تمثل في نهاية المطاف مصالح الأفراد في المجتمع. وقد تتبع الدولة نظاما مركزيا أو لامركزيا في التخطيط وفقا للسياسات المتبعة فيها وحسب طبيعة نظامها السياسي والظروف المحيطة بها.
لقد اصبح واضحا أن المجتمعات قد أجمعت على تنصيب جهة معينة لتتولى مهمة إدارة شؤونها في إطار ما سمي بالدولة The State . وإذا القينا نظرة إلى الخريطة السياسة للعالم، فإننا نجد أن المعالم الجغرافية قد حددت بمعالم سياسية وتشكلت حدود وهمية وقسمت الأراضي والمساحات وفقا للسلطة القائمة على تلك المساحات.
كما ان المتتبع لحركة التاريخ يلاحظ أن الحضارات القديمة كانت تضم في جنباتها مساحات شاسعة من الأراضي تخضع لنظام مركزي واحد مع تفويض لبعض الصلاحيات للاقاليم. فالحضارة الساسانية مثلا والتي قامت في إيران وامتدت إلى الهند وبحر قزوين، وسيطرت كذلك على العراق في الفترة الواقعة بين أوائل القرن الثالث وأواسط القرن السابع للميلاد (حوالي 226-650 م) كانت ذات حكم مركزي على الرغم من تخلف وسائل الاتصال بين المركز والأقاليم آنذاك.
لقد شكل التنازع على الموارد والسلطة بين البشر دافعا لاعادة تقسيم الجغرافيا الطبيعية الى جغرافيا سياسية، وأخذ التنازع على المصالح اوجه في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث أعيد رسم خريطة العالم وتوزعت المناطق على مراكز النفوذ الكبرى. ولربما توصل الإنسان وبعد تجارب مريرة من الاقتتال إلى حقيقة وجوب القبول بالآخر وفرضت المجتمعات المتشابهة حقائق على الأرض تتعلق بوجوب إدارة نفسها بنفسها وبأقل قدر ممكن من المركزية والإلحاق. إلا أن المجتمعات الإنسانية ما زالت تتنقل بين النهج المركزي أو اللامركزي في الادارة والتخطيط. ويلاحظ أن المركزية في الدولة أصبحت تنحصر في مجالات محددة، كونها أصبحت جزءا من منظومة أكبر وتخضع للقوانين العامة التي تصوغها التكتلات الأكبر. وخير مثال على ذلك ما يجري في إطار الاتحاد الأوروبي أو في الولايات المتحدة الامريكية، حيث نجد أن هناك العديد من الدول أو الولايات التي تحكم في نطاقها المكاني ضمن حدودها بسيادة، إلا أن هذه السيادة تصبح نسبية عند تبعيتها لمجموعة أوسع من القوانين التي جرى تحديدها ضمن الاطار الاتحادي.
وليس هناك حكما مطلقا في المركزية، بمعنى انه ليس بالإمكان القول أن هذه الدولة تتبع النظام المركزي أو اللامركزي بالمطلق. فقد ايا منهما في جوانب معينة وتخالفه في جوانب أخرى. ولهذا السبب فانه يمكن التفريق بين المركزية السياسية والمركزية الإدارية والمركزية الاقتصادية.
ففي اطار المركزية السياسية Political Centralization ، فاننا نجد ان الدستور الأردني ينص على أن المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية ذات سيادة وعلى أن الشعب الأردني هو جزء من الأمة العربية وان نظام الحكم فيها برلماني وملكي وراثي. ويرأس جلالة الملك الدولة وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويمارس جلالة الملك سلطاته التنفيذية من خلال رئيس ومجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) الذي يكون مسؤولا أمام مجلس الأمة بشقيه الأعيان والنواب الذين يمثلون سلطة منفصلة ذات سيادة هي السلطة التشريعية. أما القضاء فيتمتع حسب الدستور الأردني باستقلالية تمكنه من لعب دور حيادي كبيت للعدلة وملجأ للتقاضي.
وما يهمنا في هذا الاطار هو تأثر التخطيط بالنظام السياسي السائد في الدولة، فنلاحظ أن هناك علاقة مباشرة بين طرفي المعادلة حيث يمكن القول بأن درجة المرونة في إعداد وتنفيذ الخطط تتتناسب بشكل عكسي مع مركزية النظام السياسي، بمعنى انه كلما زادت درجة مركزية النظام السياسي، قلت المرونة في إعداد وتنفيذ الخطط.
أما في اطار المركزية الإدارية Administrative Centralization فمما لا شك فيه أن نوع الإدارة المتبع في الدولة ينبثق من نوع النظام السياسي ودرجة مركزيته. فالدول التي تتبع النظام الفيدرالي (اللامركزي) على سبيل المثال، تتبع هيكلية إدارية تمنح سلطات أكبر للمناطق، بينما تقوم المركزية الإدارية على حصر سلطة صنع القرار في يد السلطة المركزية على أن يقوم الموظفين المنتشرين في الأقاليم بتنفيذ توجيهات وخطط السلطة المركزية. وعلى الرغم من ذلك فان هذه السلطة تترك هامشا محدودا من اللامركزية تبعا لدرجات الموظفين التابعين لها.
ويلاحظ أن للعاصمة دور كبير في مثل هذا النظام، بينما تلعب مراكز المحافظات دورا أقل ومن ثم البلديات. ويمكن التفريق بين نوعين من المركزية الإدارية هما المركزية المطلقة والمركزية النسبية، حيث تقترب الأخيرة من النظام اللامركزي وفقا لسعة هامش الصلاحيات الممنوحة لها من المركز.
اما في موضوع المركزية الاقتصادية Economic Centralization فصحيح أن الاقتصاد هو محرك العملية التنموية في جميع أشكال الأنظمة السياسية والإدارية، مركزية كانت أو لامركزية، إلا أن الاقتصاد يبقى حبيس تلك القيود التي تفرضها او تقلل من وطأتها المركزية او اللامركزية في التخطيط. وانه لمن الإنصاف بمكان أن نذكر أن الاقتصاد يشكل المساحة الواسعة ما بين القوانين والناس على اعتبار انه الأداة التي تقاس بها انعكاسات التنمية على الفرد والمجتمع.